هل
يجوز التخيير في التحاكم بين المحكمة الشرعية وغيرها ؟
الجواب :
إن كانوا يخدعون عُبَّاد المادة والذين لا مبالاة لهم بسلوك الجادة بجعل تحكيمها والرجوع إليها اختياريا لا إجباريا، ولعمر الله لقد جاء صاحب هذه الكلمة شيئًا فَرِياًّ، متى كان التخيير في التحكيم إلى المتحاكمين وأن لهم تحكيم من اتفقوا على تحكيمه من حاكم شرعي وغير شرعي ؟! أوليس الله يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النّـِسـَـاء: 65]؛ فإن الضمير وهو الوارد في قوله: {يُحَكِّمُوكَ} المراد به: المتخاصمون، فليس الأمر إليهم في ذلك؛ بل لا يسوغ لهم أبدًا أن يرجعوا عند التنازع وينتهوا عند التخاصم إلا إلى الشرع المحمدي. والتحاكم إليه هو التحاكم إلى حملته الحاكمين به. وما أشبه هذه الكلمة السيئة المتضمنة ما تقدم بما قد اشتهر قديمًا عند بعض رؤساء القانونين من تخييرهم الخصمين عند ما يرفعان الشكاية إليهم؛ من قوله: تريد الشرع الشريف، أو القانون المنيف ؟ ما أشبه الليلة بالبارحة ؟!
فـإن لـم يَـكُـنْـهــا أو تـكُـنْــهُ فـإنــه أخـوهـا سَـقَـتْـهُ أمـهـا مـن لـبـانـهـا[1]
أما يوقظنا ما أوقع الله بالحكومات التي استحسنت القوانين من إبادة خضراهم، والعقوبات التي جعلت بقاء ما معهم من الدين الإسلامي شذر مذر وأسماء لا حقيقة، كما جعلت دولاتهم كذلك: عوقبوا على تحكيمهم غير الشرع في بعض أمورهم؛ حتى انتهت الأحوال بهم إلى أن لا حكم بينهم في كل شيء إلا القوانين الملفقة من قوانين «جانكيز خان» وغيره من رؤوس الدول الأخرى: كالروس والإنجليز وسائر الدول الكفرية، والطوائف البعيدة عن الأصول والنصوص الشرعية.
ولا يظن أن في الشرع المحمدي أي شيء من حرج، لا في محللاته ولا في محرماته، ولا حكمه وأحكامه وأحكامه ومعاملاته؛ كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحـَـجّ: 78]؛ بل هو اليسر كل اليسر، والأمر الذي لا استقامة للمسلمين ولا فلاح لهم إلا بتحكيمه. نعم؛ لا يتفق أبدًا مع أغراض المبطلين الشخصية وأرباب الهلع في اقتناص المادة بشتى الطرق الجائرة الظالمة، وليس يسر الدين أنه يتفق مع أهل الإرادات الكفرية والاعتقادات الإلحادية، والمعاملات الربوية، والحيل المحرمة الردية، وحاشاه أن يتفق مع أغراض هؤلاء، إنما يتفق مع العدل وإرادة مريدي حقوقهم لا مطمع لهم في حقوق وأموال سواهم؛ فالشرع حفظ الحقوق كائنة ما كانت لأربابها وحماها، وطهرها عن ما يريد أهل الجشع والظلم من ضم غيرها إليها.
ثم متى كانت المحاكم الشرعية معرضة عن الصلح العادل الذي لا يحرم حلالا ولا يحل حرامًا؛ بل فيما يصدر عن حكام الشريعة من فصل الخصومات قسم كبير مستنده الصلح الشرعي العادل.
ومن المعلوم أن من دار في خلده شيء من الغلط ثم استقر، أو استمالته الشهوة إلى ما لا يحل وعاود ذلك واستمر، يقوى ذلك في اعتقاده حتى تعود الشهوة شبهة، والغلط في اعتقاده صواباً فيبقى منافحاً عن غلطه، وعن الشبهة التي نشأت عن شهوته، وبهذا اصطاد الشيطان أكثر الخلق، وأمرَّ في مذاقهم الفاسد حلاوة طعم الشرع والحق.
وأي شيء عند المسلمين سوى أصل دينهم وهو شهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ؟ مع ما يثمره ويتفرع عليه علماً واعتقاداً وعملاً وبراءة مما يناقض ذلك ؟ فعلى المسلمين تأمل جملتي أصل الدين وما تقتضيه الأولى «شهادة أن لا إله إلا الله» من إفراد الله بالعبادة، وما تقتضيه الثانية «شهادة أن محمدًا رسول الله» من إفراد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، وتحكيم ما جاء به والحكم بمقتضاه في القليل والكثير والنقير والقطمير، على الكبير والصغير والمأمور والأمير.
الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين